هل يدرك المعنيون أنّ أخطر ما في استقالة الوزير ناصيف حتّي هي أنها مؤشّر الى مرحلة أسوأ يدخل فيها لبنان؟ لو استقال الرجل بسبب تجاوز صلاحياته كوزير للخارجية، لكان الأمر بسيطاً. لكن الخطِر هو أنه استقال بعد تبلّغه معطيات «عميقة»، عبر الأقنية الديبلوماسية، وقد عبَّر عنها صراحة في بيانه، إذ قال: «ننزلق إلى دولة فاشلة»، وفي هذا المناخ «المركب سيغرق بالجميع». إنها «التايتانيك»، وقد قفز منها الوزير بسترة النجاة.
في الأسابيع الأخيرة، تجمّعت معطيات تُنذر بالأسوأ. وقد تولّى نقلها سفراء عرب وأميركيون وأوروبيون، وممثل الأمين العام للأمم المتحدة يان كوبيتش الذي أعلن أنّ «المؤامرة الحقيقية هي عدم رغبة الطبقة السياسية والمالية في تطبيق الإصلاحات».
لكن الصورة اتّضحَت تماماً بزيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان. فالذين التقوه استنتجوا تحذيراً من بقيةِ صيفٍ حار جداً على مختلف المستويات، المالية والنقدية والاقتصادية والأمنية، أي بين آب وأيلول، بحيث تكون العواقب مؤلمة جداً. ولكن، قوبِل لو دريان بموقفٍ لا مُبالٍ، بل بهجوم الرئيس حسّان دياب.
في الأوساط الإقليمية والدولية بات واضحاً أنّ السلطة في لبنان تسير على الإيقاع الذي رسمته إيران لنفسها، أي ممارسة «الصبر» حتى الخريف، موعد انتهاء الحظر على التسلُّح والانتخابات الرئاسية الأميركية، إذ يمكن حينذاك «التخلُّص» من إدارة الرئيس دونالد ترامب.
وهذا الأمر يستثير واشنطن ويدفعها إلى الردّ بمزيد من الضغط على لبنان سيتصاعد حتى الخريف المقبل، إذ سيستمرّ إقفال كل منافذ المساعدات التي يمكن أن يتلقاها. وهذا ما ظهر في فشل كل محاولات «الخرق» التي جرّبها لبنان أخيراً، سواء خليجياً أو فرنسياً.
فالأميركيون يتعاطون بهدوء، ولكن بتشدّد، مع إصرار أهل السلطة على المناورة والتلاعب. فهؤلاء «يزحِّطون» كل مطالب الإصلاح بطرقٍ وذرائع مختلفة، لأنهم لا يريدون إنهاء عقد الزواج القائم في السلطة، والمبني على ركيزتين: فساد الطبقة السياسية مقابل نفوذ «حزب الله». وكل من الطرفين يجب أن يؤمّن استمرار الآخر.
ومع زيارة لودريان، أظهَر أركان السلطة في لبنان أنهم ما زالوا يتمسّكون ببعض المقولات القديمة، كالقول إنّ المجتمع الدولي له مصلحة في ان لا يفرِّط بالاستقرار اللبناني. فالأميركيون والسعوديون لا يريدون أن تؤدي الفوضى في لبنان إلى تكريس نفوذ إيران. أما الفرنسيون وسائر الأوروبيين فيحرصون على استقرار لبنان ليكون لهم موطئ قدم استثماري وضمان لعدم اجتياز النازحين نحو أوروبا.
وفي تقدير المتابعين أنّ هذه الفرضيات تبقى صائبة إلى حدّ بعيد. فصحيح أنّ واشنطن وباريس والرياض تتمنَّع عن تزويد لبنان بالمساعدات وتمارس ضغوطاً عليه ليلتزم الإصلاحات ويفكّ ارتباطه بإيران، إلا أنها لم تصل معه إلى حدِّ «الخنق». ولبنان لا يمكن أن يصمد لحظة واحدة إذا اتخذ الأميركيون خطوات عقابية حقيقية وصارمة ضده، وضد قطاعه المصرفي خصوصاً.
ولكن، يقول المتابعون، إنّ أركان السلطة يرتكبون خطأ فادحاً إذا ظنّوا أنّ «الغطاء» صامد فوق لبنان، أيّاً كانت الظروف، أي مهما لجأت الحكومة إلى التحدّي. ففي لحظة المواجهات الكبرى بين واشنطن وطهران لا أحد يستطيع أن يضمن النتائج، لأنّ كلاً من الطرفين يعتبر أنّ مصيره على المحكّ.
وتالياً، إنّ أهل السلطة ربما يدفعون بالبلد إلى أن يكون كبش محرقة في الصراع الدولي - الإقليمي الكبير. وهذا ما أراد كوبيتش قوله مجدداً. كما أنّ أحداً لا يضمن عدم دخول إسرائيل على الخط للاستثمار.
فلبنان المأزوم اقتصادياً ومالياً قد يدخل مواجهات جديدة جنوباً. وملامح التوتر الذي جرى قبل أيام في مزارع شبعا يمكن أن يكون بداية لسيناريو أوسع. والأميركيين يمكن أن يغطّوا أي ضربة عسكرية إسرائيلية في سياق مواجهتهم مع إيران. فيما تضغط واشنطن لتعديل مهمات قوات «اليونيفيل» تحت طائلة سحب التمويل عنها، ويمكن أن يتحرّك ملف الحدود وسط الخلاف على مخزونات الغاز بحراً.
إذاً، توحي المعطيات أنّ لبنان ربما يسدّد المسدس نحو رأسه، في لعبة «روليت روسية»، وفي أكثر المراحل دقّة على الأصعدة المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية.
الأوساط المتابعة تتخوّف من تفاقم تدريجي للمآزق في لبنان، بدءاً من هذا الشهر. والدلائل هي: الارتباك السياسي الداخلي، تعطّل التوافق على الخطة الاقتصادية - المالية، تعطّل التفاهم مع الاستشاري المالي «لازار»، وتوقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
في الموازاة، ثمّة من بدأ يتحدث عن قرب انتهاء حالة الهدوء النسبي التي عاشتها الليرة اللبنانية في السوق السوداء، وعن توقّع قفزات للدولار الأميركي تبرّرها عمليات ضخّ كميات هائلة من الأوراق النقدية التي تم طبعها حديثاً. فيما تحوم شكوك حول قدرات مصرف لبنان المركزي على الاستمرار في تغذية الصيارفة بالدولار. وسيعني ذلك اضمحلالاً للرواتب وتصاعداً للأسعار لا يمكن احتساب نتائجه.
في لعبة «الروليت» الروسية، هناك رصاصة واحدة حقيقية. ويبدو أنّ أركان السلطة مصرّون على المغامرة، مهما كانت خطرة. وأكثر فأكثر يتمسّكون بعقد الزواج بين طاقم السلطة الفاسد ونفوذ «حزب الله»، وبه يصرّون على مواجهة المجتمع الدولي والتنكّر لمساعداته. ولكن، مَن يَضْمن عدم وضع الزناد على الرصاصة الحقيقية؟
إنّ أهل السلطة ربما يدفعون بالبلد إلى أن يكون كبش محرقة في الصراع الدولي - الإقليمي الكبير